رؤية من الخارج لمحبرة الوجع
بقلم د / رمضان الحضري
****
النقد مريد للإبداع وليس ذا سلطة عليه ، ربما العكس فقد يكون للإبداع سلطة على النقد ، لا من حيث السبق بل التأثير ، حيث إن الإبداع نقد لعجلة المجتمع ، بينما النقد رؤية لإعادة تركيب المجتمع في لوحة فنية مرسومة
بالحرف أو باللون أو بالصوت أو غيرها .
وليس الإبداع الشعري كما يظن هواة اللغة مكونا من لغة صحيحة وفصيحة ، بل من وجهة نظري يتكون من لغة رقيقة وخصبة ومريحة فلغة الشعرية هي لغة الاستجمام بجمال الصورة ، والتأثر بها حيث تغير وجهة نظر القارئ المتلقي ، فإذا تغيرت وجهة النظر فقد ( شَعُرَ ) الكاتب أي قال شعرا مؤثرا ، وهي غير كلمة ( شَعَرَ ) أي قال شعرا سواء كان
مؤثرا أم غير مؤثر .
وقد تلقيت ديوان ( محبرة الوجع ) للشاعرة / داليا السبع فوجدته بستانا واسعا يتكون من خمس وأربعين شجرة من النصوص الكبيرة وشجيرة من النصوص القصيرة ، تبدأ بنص بعنوان ( أدراج صمتي ) وتنتهي بنص ( سهام غدرك ) ، وليس النصوص مؤرخة لكي أتعرف على خط سير الشاعرة ، ولكن ظني أنها مرتبة حسب التواريخ التصاعدية مما يجعلني أثبت أن الشاعرة تقف على ناصية الإبداع محاولة أن تستلهم تجارب شخصية دون اللجوء لتجارب السابقين لها ، وهذا ما جعلها تكتب صورا بكرا غير مسبوقة ولا مطروقة ، ولم تلتزم مع القدماء بعهد ، ولم تحتفظ للمعاصرين بوعد ، فجاءت كلماتها خاصة جدا بها ، كلماتها تعرِّفها ، وهي
تدرك ماتقول ، ربما جاءت نصوصها من قصيدة النثر ، حيث ترتكز الشاعرة على المقومات الموضوعية لقصيدة النثر من الشعور بعدم
التوافق مع الواقع من حولها ، وحرب الطبيعة لها ، وشدة تركيز الشاعرة على أن تأتي الصورة مركزة وغير قابلة للتقسيم ، تقول الشاعرة في نص بعنوان ( شفير اللهب ) :
يختنق ما بين كلي
صوت الحنين
والضجر مارد مقيم
يقتنص من الإحساس
بناهلات اليأس .
***
هذه متوالية واحدة من المتواليات الشعرية التي تتمدد داخل الديوان في قوة ومنعة ، لتخبر القارئ أنه أمام شاعرة تمتلك موهبة كبيرة فالبدء بكلمة متحركة ، وهي كلمة تخص الحركة والسكون في ذات الوقت مما يجعلنا نقول أن هناك كبتا شديدا تعانيه الشاعرة ، فالفعل يختنق هو فعل من أغرب أفعال اللغة العربية حيث يدل على الحركة من الخارج وعلىالسكون من الداخل ، والسكون هنا بمعنى الاستسلام لما يحدث ، حيث لا يمتلك المختنق أن يدافع عن نفسه ، فهو في حالة من حالات التلاشي أو
حالات الانكسار ، وتبتكر الشاعرة صورة جديدة للضجر بأنه مارد مقيم أي لا نستطيع له دفعا ، ولا نملك أمامه مقاومة ، فهذه صورة جديدة في شعرنا العربي تشي بأننا أمام مبدعة تمتلك أدوات الابتكار ، وخاصة حينما تصور من له أثر بمن لا نعرف له أثرا فجميعنا يعرف الضجر وما يسببه من آلام نفسية وانفعالية ، ولكننا لم نر ماردا مقيما من قبل ، بيد أننا إذا قلنا للناس أن هناك ماردا مقيما في مكان ما فسوف يصابون بالرعب والزعر والهلع ، فالضجر لا يصيب الشاعرة باليأس فقط ولا بالضيق والقلق ، بل يصيبها بالخوف والرعب والهلع ، ولذا تأتي الجملة الشعرية بعدها مفسرة أن هذا المارد يقتنص من الإحساس ، ماذا يقتنص ؟ هذا هو
المبهم الذي يحتاج لتفسير ، لكن المبدعة تدرك أن القارئ لن يستطيع معها صبرا ، فتقول أن هناك ناهلات لليأس ، هذه الناهلات كثيرات بحجم اليأس ، ومن وجهة نظري أن هذه الصورة تحتاج لإعادة الرؤية لأنها صورة متسعة جدا لم تستكمل ضفائرها شاعرتنا الراقية .ربما هذا هو الديوان الأول للشاعرة ، حيث لاعلم لي بذلك ، لكن داليا السبع تمتلك من الوعي والإدراك الفنيين ما يؤهلها لتصبح شاعرة ذاتصوت خاص ، والأهم أنها يمكنها أن تكون ذات صوت مؤثر ومسموع .
دكتور / رمضان الحضري
القاهرة في 19 من أغسطس 2020م
كتاب مللت البعد عن الله
بين عينيك تأليف مي الأعور